إذاً: لا نؤول أي شيء من أسماء الله، أو من صفات الله تبارك وتعالى، فإذا جاء نص من النصوص، ورأينا في بادئ الرأي أن السلف الصالح لم يحملوه على ظاهره الذي نحن نرى أنه ظاهرة، فلنخطئ أنفسنا، ولا نقول: إن السلف أولوا، إذ إنه أحياناً يضطر السلف إلى التأويل إذا لم يكن منه بد، وأنت فهمت أن هذا تأويل وليس هو تأويل، والظاهر الذي ترى أنه ظاهر رأوا أنه غير ظاهر، والظاهر الذي هو مراد المتكلم لا يمكن أن يكون فيه نقص أبداً؛ لأن المتكلم إما أن يكون الله عز وجل، وإما أن يكون رسوله صلى الله عليه وسلم، فهل يمكن أن يكون أحد أعرف وأعلم بالله تبارك وتعالى من نفسه، ومن رسوله صلى الله عليه وسلم؟ لا يمكن.وبالتالي نوصد الباب كله، إذ إنه لو فُتح باب التأويل لما بقي من الدين شيء، فلو جاء شخص وقال: أريد منكم أن تكونوا
أشاعرة ، ونريد أن نؤول بعض الصفات فقط من أجل أن ننزه الله سبحانه وتعالى، ثم قال: أنا أثبت أن الله تعالى حي، عليم، قادر، متكلم، مريد، عالم؛ لأنها في نظري لا تستلزم المشابهة، لكن اليدين والأصابع والقدم، أرى أن نؤولها حتى لا يلزم المشابهة، وأن نؤول العلو -علو الله- فنقول: الله في كل مكان، إننا لو وافقناهم على ذلك لافتتح علينا باب عظيم من الشر، ولجاءنا الباطني فقال: القيامة والبعث والجزاء والحساب والجنة والنار لا بد أن تؤول؛ لأنها خلاف الظاهر، ويريد منا أن نقول: إن البعث أو الحشر هو بالأرواح فقط، أما الأجساد فلا تحشر ولا تجمع، والأعمال لا توزن، والجنة والنار مجرد تخييل! فإن قلنا: ما رأيك بهذا الكلام يا أشعري؟ قال: هذا كفر، أي: تأويل الحشر والمعاد كفر، فإن جاء شخص آخر من
الباطنية أشد من هذا، وأوغل منه في الكفر فقال: إن الصلوات الخمس التي فرضها الله علينا عبارة عن الأسماء الخمسة:
علي و
الحسن و
الحسين و
فاطمة و
محسن! فإن قيل له: والحج؟ قال: الحج أن نقصد الإمام الغائب، والصوم؟ قال: أن تمسك الأسرار التي يعلمنا إياها شيوخنا! وهذه العبادات هي عمل العوام الذين لا يفهمون، ويأتي الصوفي فيقول: هذه ذكر وعبادة العوام، أما خاصة الخاصة الذين وصلوا إلى درجة اليقين فتسقط عنهم التكاليف، فيبدأ هؤلاء يتأولون في العبادات والشرائع، بل أي شيء ممكن أن يؤولوه، فإن قلنا لهم: اتقوا الله، قالوا: أما رضيتم أن نؤول العلو، وقد جاءت فيه الآيات والأحاديث الكثيرة؟ أولوا هذه، هذا أخرجتموه عن ظاهره، فلماذا يبقى على ظاهره؟ حتى هذا نخرجه عن ظاهره، فالمعاد والبعث والشرائع كلها تؤول، وتصرف عن ظاهرها، فلو وافقناهم في تأويل شيء لفتحوا علينا أبواباً من الشر، ولا يمكن أن نقول لهم شيئاً، وهذا ما يقوله
الأشاعرة لهم، إذ يقولون لهم: تأويلنا واجب، أي: عندما نؤول اليد أو العين أو القدم أو أي صفة أخرى، فإن ذلك واجب حتى ننفي عن الله التشبيه، و
الأشاعرة متفقون معنا على أن تأويل
الباطنية كفر، فيصبح هذا تحكماً، أي: تأويل
الأشاعرة واجب ودين وعقيدة، والذي يخالفها ليس من أهل التوحيد، ولذلك يسمون
أهل السنة مشبهة و
مجسمة، وينبزونهم بالألقاب كعادة أهل البدع في كل زمان ومكان، كأن ينسبونهم إلى رجل أو إلى صفة مذمومة أو إلى عمل قبيح، فإن قال: أنتم أخرجتم النصوص عن ظاهرها، قالوا: وأنتم أخرجتموها عن ظاهرها، فإن قالوا: هذه نصوص عندنا احتمال صارف راجح، قالوا: ونحن عندنا الصارف أيضاً راجح، فأي جواب يقوله
الأشعرية تقول به
الباطنية ، ولذلك فإن الحق أن تسد الذريعة، وأن يقفل الباب، وأن يقال القاعدة التي ذكرها
شيخ الإسلام رحمه الله في
الرسالة التدمرية : إذا سألونا: هل ظاهر النصوص مراد أم غير مراد؟ فالجواب: إن كان مرادكم بالظاهر ما تفهمونه أنتم من التشبيه؛ لأنه ليس في الآيات ولا في الأحاديث تشبيه، لكن يقول لك: قوله تعالى: ((
بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ))[المائدة:64] لا يثبت على ظاهره، فنقول: ماذا تقصد بكلمة: الظاهر؟ إن كان الظاهر هو أن لله تبارك وتعالى يدين كيدي المخلوقين، فهذا لا يدل عليه النص، وأنت فهمت النص خطأ، وإن قال: أعني بالظاهر إثبات الصفة لله، قلنا: نعم نثبت الصفة لله، نثبت اليدين لله، وهذا الظاهر مراد، والله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يتكلم بكلام عبث في أي أمر من الأمور، فكيف بأعظم الأمور، وأشرف المعارف والعلوم، وأرفعها وهو ما يتعلق بمعرفة الله تبارك وتعالى؟! لا يمكن أن يكون الكلام فيه إلا محكماً غاية الإحكام والإتقان، ولهذا نقول: إن أحاديث الصفات وآياتها ليست من المتشابه، بل هي من المحكم؛ لأنها أجلى وأوضح ما في هذا الدين، بل ليس فيها أي إشكال، والشبهة أو الخلل إنما جاء من فهم بعض الناس، مثل: الأعرابي الذي دخل على
ربيعة أو على
مالك فقال: كيف استوى؟ فجاءه الخلل في عقله هو، فقال
مالك : [
الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة ]. ثم قال: أخرجوه من الحلقة؛ لأنه مريض، وسيعدي الآخرين الذين عافاهم الله من هذا الداء، ولذلك فالخلل جاء من فهمه هو، والناس قبله وبعده يقرءون هذه الآية، ويقرءون أي حديث أيضاً، أو أي آية في الصفات، ولا يفهمون منها مشابهة الله تبارك الله تعالى أو مماثلته لخلقه.